الاسس والاشتراطات لتوفير الاضائة اللازمة

الإضاءة
[عرف العرب قبل الإسلام جميع وسائل وطرائق الإضاءة المعروفة حتّى عهدهم، ولا سيما أولئك الذين كانوا يعيشون منهم على أطراف الجزيرة العربية في اليمن والأحساء والبحرين والحجاز، أو في مشارف الشام وحافّة السواد العراقي.
وكان أكثرها شيوعاً: وسائل الإنارة بالزيوت، ثمّ بالشموع. وقد يكونون قد عرفوا نوعاً من الإنارة بالنفط الذي استخدمه الساسانيون على حوافي العراق. أما النار المطلقة فكانت لسكان البادية وقد يوقدونها لقِرى الضِّيفان، ولعقد الأحلاف، ولاستدعاء النَّجدات عند الحرب، أو للسَّمَر في الليل. وقد كانت النار على أي حال أساس كل عمليات الإضاءة، وكان يستخدم فيها سعف النخل..
ولم يزد العهد الإسلامي شيئاً على مواد الإضاءة الثلاث: الزيت، والشمع، والنفط، ولكنه تفنّن في إخراج الوسائل التي تحتضنها والأدوات التي تبرز بها النار وتُحمل من مكان لآخر.
1 ـ الأسرجة:
كانت هي الشائعة في طول العالم الإسلاميّ وعرضه، وهي ليست أكثر من وعاء فيه زيت وله فتيل. وزيت الزيتون متوفر في أنحاء المملكة الإسلامية في الأندلس وإفريقية والشام وفارس. وكان السراج في أول الأمر يستعمل للبيوت كما للمساجد الأولى وفي القصور كما لدى الطبقات المتواضعة. وقد روي عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله أنه كان يوصي إذا أراد أحدٌ الرقادَ أن يغلق بابه، ويُوكئ سِقاءه، ويخمّر إناءه، ويُطفئ سراجه (1). كما ذكروا أن تميماً الدارمي (صاحب وقف الدارى في الخليل) قَدِم مسجد الرسول في خمسة من غلمانه فأسرج مسجده بالقناديل والزيت. وكانت قبلُ تُضاء بسعف النخيل (2).
وتساوى في استخدام السراج للإضاءة: الخلفاء والعامة، وكان الفرق فقط في نوع السراج من الطين أو الزجاج أو الخزف أو خلائط النحاس، وفي الكبر والصغر، وفي الزخرفة التي تقع عليه.
وقد استخدم في العهد الأموي والعباسي على السواء حتّى العهد الفاطمي والمملوكي. وكان المنصور يقرأ عليه رسائل الدولة وهو ساهر وقد يخرج في الفجر وبين يديه خادم بمصباح خوفَ العدوان عليه، كما كان الجاحظ يقرأ على السراج في دكاكين الوراقين حين يستأجرها في الليل لقراءة الكتب. وابن سينا يقول عن حياته الأولى في بخارى أواخر القرن الرابع «... وكنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يديّ وأشتغل بالقراءة والكتابة...» (3). وكانت تنار به دمشق وبغداد وقرطبة والقيروان، كما تنار به بيوت القدس وشيراز وهَمَدان وبخارى وسمرقند.
غير أن العصر العباسي أتى في الأسرجة ببعض البِدع، فثمة مَن ضمّ بالطين ثلاثة أسرجة بعضها فوق بعض وجعل لها ثلاث ذبالات تتقد معاً، كالذي فعله حمّاد الراوية فلامه أصدقاؤه على إسرافه في اقتناء تلك المنارة!
وكان السلطان هو الذي يتكفل بإضاءة المساجد والمؤسسات الدينية من مدارس وزوايا ودور حديث. وقد ذُكر أن المعتصم سنة 219 هـ سكان أول من أنفَطَ وأسرَجَ بين المأزمين في طريق عرفة.
وتلألأت الأنوار في الحرم المكي والمسجد النبوي خيفةَ أن يعدو اللصوص على المعتمرين (4)، فهي مَطْرَدة للشيطان ومَذَبّة للهوامّ ومُدِلّة على اللصوص.
أما شوارع المدن وأزقتها فكان أهلها يُلزَمون بإضاءتها وبخاصة في مواطن الشبهات. يقول ناصر خسرو إنه رأى بمصر أسواقاً وأزقة ضيقة تظل فيها القناديل مشتعلة بشكل دائم، لأن نور الشمس لا يصل أبدا إليها، وهي أزقة لا ينقطع سير الناس إليها (5). وقد ذكروا أن شوارع الربض في شرقيّ قرطبة كانت مُنارة في الليل بالمصابيح التي بلغ من كثرتها أن جلست النسوة يكتبن المصاحف بالخط الكوفي... وتمتد الأسرجة يستضيء بها الناس ثلاثة فراسخ (6) وكان أصحاب المراكب يلزمون بإضاءتها ليلاً.
وقد ظلت ابتكارات أولاد موسى بن شاكر في الأسرجة نظرية مكتوبة على الورق، وقد يكونون قد جرّبوها ولكنها لم تجاوز بعد ذلك بطون كتابهم عن (الحِيَل) كالسراج الذي لا يزال ممتلئاً أبداً بالزيت، وسراج الله الذي يخرج الفتيل لنفسه ويملأ بالزيت لنفسه. والسراج الذي يخرج الفتيل فقط بذاته. والسراج الذي لا ينطفئ في الريح العاصف. وقد رسموا أشكالها وبقيت أشكالاً لم يجد فيها الناس الوسيلة السهلة للإنارة.
2 ـ القناديل (أو المصابيح):
كانت خطوة متقدمة على السراج. وهي ببساطة طريقة لإضافة الزجاج الشفاف حول ذبالة السراج ثمّ تعليقه إن شاء حامله بدَلَ إثباته الدائم على قاعدة. وقد كانت القناديل معروفة، ولكنها لم تصبح مبذولة للناس بسبب تكاليفها، فاختصت بها دور العبادة، كما حُملت للكبراء والموسرين في سُراهم ليلاً بالشوارع، ووُضِعت على أبوابهم. ويذكرون أن المأمون هو الذي أمر بالاستكثار من المصابيح في المساجد وكلف كاتبه أحمد بن يوسف بن القاسم اللبان بذلك إلى جميع عمال الدولة فكتب: «إن في ذلك أمناً للسابلة، وإضاءة للمتهجهدين ونفياً لمضانّ الريب...» (7).
كما يذكر الترشحي في تاريخ بخارى أن الفضل بن يحيى البرمكي قد سبق المأمون في ذلك خلال ولايته على خراسان، فكان أول من أمر بزيادة القناديل في المساجد في إمارته، في شهر رمضان (8).
اهتم ابن طولون ـ حين بنى مسجده الضخم في القطائع ـ أن يضيئه، فعلّق بسقفه السلاسل النحاسية المفرغة والقناديل المحكمة... (9).
وهكذا تطورت وتوسعت صناعة القناديل بعد ذلك، ولعب الترف في مادتها كما لعب الفن في تزيينها، فصار بعضها من الزجاج وأركان بعضها من الفضة وبعض من الذهب، وأخذت زينتها من الزخرف والتكفيت، وجعلت سلاسلها التي تُعلّق بها من مختلف المعادن بما فيها الفضة والذهب... وقامت لها في المدن الكبرى أسواق خاصة، كسوق القناديل بمصر الذي ذكره ناصر خسرو الرحالة قائلاً: «رأيتُ في هذا السوق من الطرائف والتحف ما لم أره في أي سوق آخر في العالم. ويوجد في هذا السوق نفائس من كل أقطار الأرض... ورأيت في داخل هذا السوق آلات دقيقة الصنعة... وصنّاعاً ينحتون البلّور بخفّة ومهارة تستوقفان النظر. والبلور مجلوب من المغرب... وفي مصر نوع من البلور اللطيف الشفاف يفوق هذا البلد المغربي. ورأيت في سوق القناديل نوعاً من العاج يُجلب من زنجبار يزيد وزنه على مائتي رطل...» (10).
وذكر هذا الرحالة عن قبة الصخرة في القدس أنه: «تنتشر القناديل الفضية في فضاء القبة، ويحمل كل قنديل اسم واهبه لهذا المقام القدسي. وقد رأيت من بين تلك القناديل قنديلاً يحمل اسم سلطان مصر. ولقد حسبت الكمية الفضية الموجودة في هذا المكان فوجدتها ألف رطل من الفضة موزّعة في ثنايا القبة... ويعلو الصخرة قنديل فضي معلّق ينحدر من سلاسل فضية تزيده اشتعالاً وتلقي على القبة مزيداً من الهيبة والجلال» (11).
وذكر الرحالة نفسه أيضاً: «أن الحاكم بأمر الله اشترى مسجد عمرو بن العاص من أحفاده وأضاف إليه زيادات جميلة وعجيبة، وأمر أن يُزيّن المسجد بقناديل فضية. وقد رأيت بعضها ـ وهي ذات ستّ عشرة ـ زاوية آية في الروعة والهندسة، ويُكتفى بإضاءة جزء من تلك القناديل في الأيّام العادية، فإذا كانت الأعياد أُضيئت جميع تلك المصابيح (وهي 700)، فيسبح الجامع في بحر من النور. ويقولون إن زنة تلك المصابيح خمسة وعشرون قنطاراً من الفضة، كل قنطار وزنه مائة رطل، وكل رطل زنة 144 درهماً فضياً. يقولون إنهم حين حاولوا إدخال هذه القناديل إلى المسجد لم يتسع لها أي باب من أبواب المسجد لعِظَمها، حتّى هدموا أحد الأبواب توسيعاً للمصابيح ثمّ أعادوا الباب إلى مكانه الأول» (12) كان ذلك سنة 403 هـ/1012م.
«وكان من رسوم الشام إبقاء القناديل في مساجدهم على الدوام يعلقونها بالسلاسل مثل مكة»
(13). وقد نهب الصليبيون قناديل قبة الصخرة والمسجد الأقصى وباعوها كِسَر فضة.
وقد رأى ابن جُبَير (حوالي سنة 570هـ/1174م) الكثير من القناديل المعلقة في الكعبة تُوقد كل ليلة (14)، وبعضها في أعلى المنارات. ويعد صاحب الاستبصار منها في المسجد النبوي بالمدينة 284 قنديلاً كما عدّ القزويني ـ بعد تحرير القدس ـ في المسجد الأقصى 1500 قنديل و 464 قنديلاً في قبة الصخرة. وكانت سلاسل القناديل تعلق في السقوف، لكل قنديل ثلاث سلاسل إلى خمسين أو أكثر. ويذكر ابن الفقيه أنه أحصى سلاسل مصابيح الجامع بدمشق فكانت ستمائة سلسلة من الذهب (15).
وقد تطورت صناعة القناديل كثيراً في العهد الإسلامي، فإذا كانوا قد جمعوا بعض الأسرجة إلى بعضها فقد كان إمكان جمع القناديل أوسع بسبب ما يمسكها من المعادن، ولأنها على الأغلب ثابتة معلقة. وبهذا الشكل ظهرت صناعة التنانير، والثريات التي تجمع عشرات المصابيح في مجموعة واحدة.
وكانت المصابيح التي ذكر ناصر خسرو أن الحاكم بأمر الله أهداها سنة 403هـ لمسجد عمرو تنوّراً كبيراً فيه مائة ألف درهم من الفضة. وذكر أنه كان فيه عشر مناطق، في كل منطقة 120 بزاقة، وفيه سَروات بارزة مثل النخيل، في كل واحدة عشر بزاقات، تقرب عدة ذلك من ثلاثمائة ومعلقة بأسفله مائة قنديل نجومية... (16). وعلق في قبة الصخرة تنوّر فيه أكثر من خمسمائة قنديل ثمّ سقط سنة 454هـ/ 1061م فتطيّر الناس وقالوا: «ليكونن في الإسلام حادث عظيم»!
ويبدو أن ما كان يسمى في المشرق بالتنوّر كان يدعى في المغرب بالثريّا؛ تشبيهاً لها بنجوم الثريا لولا أن التنور المشرقي كان على هيئة التنور والثريا في المغرب على شكل منائر من البلّور. وقد وصف الشريف الإدريسي ثُريّات مسجد قُرطبة، وعددها يزيد على 113 ثريّا، وأكبرها تحمل ألف مصباح وأصغرها 12 مصباحاً (17).
وكان في قصر الحمراء ثريات من البرونز من صنع الأندلس، ما يزال بعضها باقياً في متحف مدريد.
وثمة في جامع القيروان ثلاث ثريات من عهد المعزّ الفاطمي سنة 345هـ/956م. وقد قلدها الموحدون أيّام الناصر الموحدي سنة 600هـ/1204م بأخرى من مثلها سمّوها «الشاخصة»، وعدد قناديلها 520 قنديلاً وقطرها أكثر قليلاً من مترين. وأما الصغرى فقد كُسيت بثلاث حاملات للمصابيح. وفي جامع تازة ثريا تحمل 514 مصباحاً وتزن أكثر من 32 قنطاراً (18). وثمة نماذج أخرى من العصر المملوكي موزعة بين المتحف الإسلامي في القاهرة ومتحف دمشق وغيرها.
وقد وصف ابن صاحب الصلاة المؤرخ المغربي أيّام الموحدين صوراً معبرة عن التنوّر وأضوائه المتلألئة وأثرها في النفوس حين قدم مسجد قرطبة الجامع لحضور الاحتفال بليلة القدر، ووصف الفتيلة التي رُفعت على مئذنة الجامع وفي داخلها الشموع لتزيينها (19).
واستعملت في المدن الإسلاميّة مع القناديل: المشكاة، وهي السراج يوضع في وعاء زجاجي مزيّن ويعلّق كالمصباح. ويبدو أن صناعتها والاستصباح بها في المساجد شاع كثيراً في العصر المملوكي، فثمة منها أعداد كثيرة في المتاحف. وزجاجها الملون الذي تغلب فيه الزرقة كان يحمل الزخارف والكتابات والصور على الزجاج، وغالباً ما يحمل الآيات القرآنية. وقد يطعّم الزجاج بالمِينا. وقد تصنع المشكاة كلها من الخزف أو من النحاس المكفّت بالذهب والفضة.
3 ـ الشمع:
كان في استخدام الشمع في الإضاءة نوع من الترف؛ لارتفاع ثمنه، ولاعتياد الناس على تقديمه أو حمله في المواكب والاحتفالات. وكان يباع بالوزن، واشتهرت إصبهان بإنتاجه، وكانت تحمل في جملة خراجها السنوي إلى السلطان ألف رطل منه (20).
وكانت الشموع تُصنع حسب حاجة المشترين طولاً وضخامة ووزناً، كما تتنوع أنواعاً وتتلوّن بألوان شتّى. وكانت قبل الإسلام ترافق المواكب الكنَسية أو تُهدى للمعابد، وقد استخدمها بعض ملوك الحيرة في موكبه كما استخدمها الحكّام الأمويون. فكان يُمشى بين أيديهم بالشموع الطوال التي قد يصل طول الواحدة منها ثلاثة أشبار (قرابة 60 ـ 70سم) ويتجاوز وزنها ستة أرطال (21)، كالشمع الذي كان يُمشى فيه بين يدَي يزيد بن عبدالملك. ويذكرون أن الوليد بن يزيد اتخذ الشموع الغلاظ المنوية (التي يبلغ وزنها المن أو الرطلين).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق